جيو- سياسية مالكوم إكس


هشام عايدي، كاتب وأكاديمي أمريكي 



"أواجه صعوبة في الصلاة. إصبعي الكبير غير معتادٍ على ذلك"، ذكر مالكوم في مذكراته يوم 20 أبريل 1964م بعد وقت قصير من وصوله إلى مكة. بعد أن اِستقال مؤخرًا من "أمة الإسلام"، كان لا يزال يتأقلم مع الجلوس على ركبتيه أثناء الصلاة. ورغمًا عن الألم، شرع في اليوم التالي في رحلة إلى جبل عرفات، كجزء من الحج، منضمًا إلى "مئات الآلاف من الحجاج، بكل الألوان، الحافلات، السيارات، الجمال، الحمير والأقدام. كتب أن مكة محاطة بـ: "أقسى الجبال التي رأيتها في حياتي. تبدو وكأنها مصنوعة من نفايات الفرن. ليس عليها غطاء نباتيٌ مطلقًا. المنازل قديمة وحديثة. لا تختلف بعض أجزاء المدينة عن الوقت الذي كان فيه النبي إبراهيم هنا منذ أكثر من 4000 عام - تبدو الأقسام الأخرى كضَواحي ميامي".

وصف الطقوس بينما يتجول بين الحجاج، الأحجار السبعة التي ألقيت على الشيطان، طواف الكعبة، ولاحظ، "المكان يمكن أن يكون جنة لعالم أنثروبولوجيا".

تروي اليوميات أيضًا رحلات مالكولم لمِصر وغانا وفلسطين والمملكة العربية السعودية في عام 1964م. هناك عبر مالكوم ميدان التحرير لشراء بعض عصير الليمون من جروبي، وهو متجر للمعجنات لا يزال موجودًا ليومنا هذا؛ ثم اشترى بيجاما وأقراص فيتامين C (بسبب شعوره بالدوار)، ذهب إلى السينما، وهلم جرا.

يمكننا اعتبار مالكوم إكس منظارًا دقيقًا يمكن من خلاله فهم صعود وتوسع أمريكا بعد الحرب في الشرق الأوسط. له وجهة نظر فردٍ من الطبقة المسحوقة تجاوز الحدود المرسومة من حوله. كتب، "رغم أنني خرجت من السجن" عندما سافر إلى الخارج. تظهر اليوميات - العديد من دفاتر المكتوبة يدويًا- عين عالم أنثروبولوجيا. يعلق مالكولم على المشهد، السياسة، الاختلافات الثقافية والدينية، بطريقة فكاهية. عندما يتأخر صديق، يقول ساخرًا "مواعيد العرب!!" في إحدى المراحل، لاحظ: "إن أخطر عادة بين المسلمين العرب هي السجائر. إنهم يدخنون باستمرار، حتى في الحج ". هناك أيضًا انعكاسات شخصية على مزاجه وصحته ووحدته الشديدة. تظهر الكلمتان "وحيد" و"مُنعزل" في كل صفحة تقريبًا. أفكاره عن المملكة العربية السعودية تدعم السرد المعياري بأن الحج كان تحوليًا.

ومع ذلك، تظهر اليوميات شيئًا آخر: عندما لا يكون في الجزيرة العربية، بدا مالكوم وكأنه يستمتع بالابتعاد عن دوره كزعيم ديني، وبعيدًا عن القيود الدينية أيضًا. سواء في غانا أو غينيا أو كينيا أو مصر، فهو يغمر نفسه في الحياة الثقافية لهذه الدول المستقلة حديثًا، ويظهر مالكوم الأصغر سنًا، عاشق الموسيقى، حيث يتردد على النوادي الليلية والمراقص مرة أخرى. في نيروبي، ذهب لرؤية صديقه جي جي يغني في نادي خط الاستواء، ثم رافق نائب الرئيس أوجينجا أودينغا إلى حفلة في معهد غوان للرقص. كتب، "رئيس الوزراء راقص جيد، بشكل ملحوظ بالنسبة لعمره". في غينيا، يحضر حفل زفاف، ثم يذهب إلى ملهى ليلي، و "بعض الأمريكيين من سفينة الأمل يحاولون الرقص ". يفرح برؤية الدول المستقلة حديثًا وهي تتجاهل الموسيقى الاستعمارية الأوروبية وتحتفي بتقاليدها الموسيقية الخاصة. في أكرا، حضر حفلًا برفقة مايا أنجيلو في نادي غانا للصحافة واستمتع بموسيقى بـ "هاي لايف"، التي صارت لاحقًا الموسيقى الوطنية للبلاد (أنجيلو 1986، 134). ولكن في الغالب في مصر، والتي رآها كجسر بين إفريقيا وآسيا، واللاعب الرئيسي في حركة عدم الانحياز، قضى معظم الوقت وشهد أكثر الانغماس الثقافي.

يعود تاريخ موسيقى الجاز المصرية إلى عصر نهضة هارلم، عندما غامر الموسيقيون الأمريكان من أصول إفريقية الذين استقروا في باريس بالاتجاه شرقًا. في ديسمبر 1921م، سافر يوجين بولارد، الطيار العسكري المولود في جورجيا، عازف الدرامز والحاصل على الجوائز، من باريس إلى الإسكندرية، مصر. لعب لمدة ستة أشهر، مع فرقة جاز في فندق كلاريدج، وخاض معركتين في مصر (لويد 2000م، 79). بعد عقد من الزمان، تبع مغني البلوز ألبرتا هنتر حذوه، وغنّى في إسطنبول والقاهرة (شاك 2001م، 43). عازف البوق والمغني بيل كولمان عاش في القاهرة من 1939م إلى 1940م، قاد صانعي إيقاعات هارلم / نجوم السوينغ. عندما بدأ الإسلام يترسخ في المدن الأمريكية وداخل دوائر الجاز، كان موسيقيي الجاز يسافرون إلى مصر. في عام 1932م، ظهر مسلم أمريكي من أصل أفريقي وله ساكسفون في القاهرة، قائلًا إنه كان في طريقه إلى مكة (بيرجر 1964م). مع صعود أمريكا في مرحلة ما بعد الحرب، انتشرت موسيقى الجاز في جميع أنحاء العالم بواسطة الجنود وهوليوود وإذاعة صوت أمريكا. في عام 1958م، سافر عازف الجيتار جميل ناصر، عازف البوق إدريس سليمان، وعازف البيانو أوسكار دينارد إلى طنجة، حيث تبث إذاعة صوت أمريكا موسيقى الجاز لويليس لمدة ساعة للمستمعين وراء الستار الحديدي، حيث سجلوا ألبومًا. ثم ذهبوا إلى القاهرة. في العاصمة المصرية، مرض دينارد البالغ من العمر 32 عامًا ومات من حمى التيفوئيد؛ دفن في المدينة، وصار قبره مزارًا معتادًا لموسِيقيي الجاز.

على كل حال، بحلول الوقت الذي وصل فيه ديفيد دو بويز إلى القاهرة في عام 1960م، كان هناك بالفعل مشهد جازٍ محلي، وقد أطلقت وزارة الخارجية جولات دبلوماسية للجاز تهدف إلى مواجهة الدعاية السوفيتية. حاول دو بويز وأصدقاؤه - بدعم من وزارة الثقافة المصرية - خلق ثقافة موسيقية مختلفة عن تلك التي ترعاها الحكومة الأمريكية. كانت الحكومة المصرية حذرة أيضًا من جولات الجاز، وأعادت "الجامباسدور" ديزي غيليسبي من مطار القاهرة في عام 1956م بعد حرب السويس.

كانت هذه هي اللحظة الثقافية المزدهرة التي واجهها مالكوم إكس عند وصوله في يوليو 1964م. مصر تزدهر ثقافيًا، وهي رائدة إقليمية في الموسيقى والسينما والأدب. تؤكد مذكرات مالكوم من مصر الأحداث والشخصيات الموصوفة في رواية دو بويز. عمل ديفيد دو بويز مذيعًا في إذاعة القاهرة، وضغط على المسؤولين المصريين لترجمة كُتب والده - وخاصة ثلاثية اللهب الأسود -. (كان "الفتى الأسود" لريتشارد رايت هو العمل الوحيد في الأدب الأمريكي الإفريقي المتوفر باللغة العربية، وكتب إلى والدته في نوفمبر 1960م؛ لقد أراد من الحكومة أن تترجم كتاب "زبيبة في الشمس" للورين هانزبيري وكتاب "لانغستون هيوز" عن موسيقى الجاز). كان مشهد الجاز المحلي يغذي الاتجاهات الموسيقية في الولايات المتحدة، حيث كتب فنانو الجاز الأمريكيون مؤلفات تكريمًا لأفريقيا والتضامن الأفرو-آسيوي. كان مالكوم يمتص المشهد في القاهرة والإسكندرية، ويحضر حفلات الزفاف والحفلات الموسيقية، ويزور النوادي الاجتماعية النخبوية في القاهرة، يبحر في النيل إلى وادي الملوك. في القاهرة، التقى فيفي، وهي امرأة سويسرية تعمل في الأمم المتحدة، كانت مولعة به تمامًا. كان يتواصل مع المسؤولين والعلماء دائمًا على أمل بناء فرع للأزهر في هارلم. عندما سافر من القاهرة إلى المملكة العربية السعودية للحج، شعر بالدهشة من فقر المملكة ثقافيًا مقارنة بمصر .

تظهر المذكرات في الواقع رجلًا هبط في منتصف "الحرب الباردة العربية" في أوائل الستينيات من القرن الماضي، والتي حرضت مصر ناصر وحلفائها الاشتراكيين ضد المملكة العربية السعودية والممالك المحافظة التي تدعمها الولايات المتحدة. كجزء من حركة عدم الانحياز، صعد ناصر هجماته الخطابية على الملكيات المتحالفة مع الولايات المتحدة في المنطقة، من خلال إذاعة القاهرة، شجب أفراد العائلة المالكة بسبب محافظتهم الاجتماعية وتحالفهم مع الغرب. كانت الموسيقى في قلب هذا الجهد الدعائي، حيث تم تجنيد كبار الموسيقيين ليغنوا أناشيد كـ "مصيرنا" و "القائد التاريخي". كان فنانو موسيقى الجاز المغتربين يناصرون الجانب المصري بقوة. قام أحد الموسيقيين، عازف الساكسفون عثمان كريم، بتكوين رباعي القاهرة لموسيقى الجاز وتسجيل أغنية بعنوان "يعيش ناصر" (دو بويز 1964م، 47). استمر كريم في التعاون مع صلاح رجب، عازف الدرامز الشاب والقائد في الجيش المصري، الذي أصبح أشهر موسيقي لموسيقى الجاز في مصر، وعمل مع صن ران وراندي ويستون. عندما وصل مالكوم إكس إلى القاهرة، لاحظ تعقيدات الحرب الثقافية، تسكع مع 'الإخوة' واستمع أيضًا إلى موسيقى الجاز مع بيرجير، خريج جامعة برينستون، خبير في شئون المسلمين السود ومنظم جولات الجاز في وزارة الخارجية. تم تقديم هذه المنافسة بمهارة في رواية دو بويز. ظهر كلٌ من رجب وكريم - كشخصيات اسمها صلاح جنين ومحمد إكس - يقدمان عروضًا في كايرو جاز كومبو. رد السعوديون على دبلوماسية ناصر الثقافية، وأنشأوا محطة إذاعية تبثّ برامج دينية. في عام 1964م، شنوا هجومًا أيديولوجيًا خاصًا بهم، حيث أنشأوا رابطة العالم الإسلامي، لتعبئة مختلف الجماعات الإسلامية لمواجهة انتشار الاشتراكية والقومية العربية العلمانية".





Comments